فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي}
في القعود {وَلاَ تَفْتِنّى} أي لا توقِعْني في الفتنة وهي المعصيةُ والإثمُ يريد إني متخلِّفٌ لا محالة أذِنتَ أو لم تأذَنْ فائذن لي حتى لا أقعَ في المعصية بالمخالفة أو لا تُلقِني في الهلكة فإني إن خرجتُ معك هلَك مالي وعيالي لعدم مَنْ يقوم بمصالحهم. وقيل: قال الجدُّ بنُ قيس: قد علمت الأنصارُ أني مشتهرٌ بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر، يعنى نساءَ الروم ولكن أُعينُك بمالي فاترُكني، وقرئ ولا تُفْتِنِّي من أفْتنَه بمعنى فتنه {أَلا في الفتنة} أي في عينها ونفسها وأكملِ أفرادِها الغنيِّ عن الوصف بالكمال الحقيقِ باختصاص اسمِ الجنسِ به {سَقَطُواْ} لا في شيء مُغايرٍ لها فضلًا عن أن يكون مهرَبًا ومخلَصًا عنها وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءةِ على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعةِ ومن القعود بالإذن المبنيِّ عليه وعلى الاعتذارات الكاذبةِ وقرئ بإفراد الفعلِ محافظةً على لفظ (مَن) وفي تصدير الجملةِ بحرف التنبيه مع تقديم الظرفِ إيذانٌ بأنهم وقعوا فيها وهم يحسَبون أنها مَنْجى من الفتنة زعمًا منهم أن الفتنةَ إنما هي التخلفُ بغير إذن، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيلٌ لها منزلةَ المَهواة المُهلِكةِ المُفصحةِ عن تردّيهم في دَركات الرَّدى أسفلَ سافلين.
وقوله عز وجل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} وعيدٌ لهم على ما فعلوا معطوفٌ على الجملة السابقة داخلٌ تحت التنبيهِ أي جامعةٌ لهم يوم القيامة من كل جانب، وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ للدِلالة على الثبات والاستمرارِ أو محيطةٌ بهم الآن تنزيلًا لشيء سيقع عن قريب منزلَة الواقعِ أو وضعًا لأسباب الشيءِ موضعَه فإن مباديءَ إحاطةِ النارِ بهم من الكفر والمعاصي محيطةٌ بهم الآن من جميع الجوانبِ ومن جملتها ما فرّوا منه وما سقطوا فيه من الفتنة، وقيل: تلك المبادئ المتشكلةُ بصور الأعمالِ والأخلاق هي النارُ بعينها ولكن لا يظهر ذلك في هذه النشأةِ وإنما يظهر عند تشكُّلِها بصورها الحقيقيةِ في النشأة الآخرة، والمرادُ بالكافرين إما المنافقون وإيثارُ وضعِ المُظهَر موضعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالكفر والإشعارِ بأنه معظمُ أسبابِ الإحاطة المذكورة وإما جميعُ الكافرين الشاملين للمنافقين شمولًا أوليًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائذن لِّي} في القعود عن الجهاد {وَلاَ تَفْتِنّى} أي لا توقعني في الفتنة بنساء الروم.
أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الاصفر؟ فقال: يا رسول الله إني امرأ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الاصفر أفتتن فائذن لي ولا تفتني فنزلت، وروي نحوه عن عائشة وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أولا توقعني في المعصية والاثم بمخالفة أمرك في الخروج إلى الجهاد، وروي هذا عن الحسن وقتادة واختاره الجبائي، وفي الكلام على هذا إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له صلى الله عليه وسلم أو لم يأذن.
وفسر بعضهم الفتنة بالضرر أي لا توقعني في ذلك فاني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم، وقال أبو مسلم: أي لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر، وقرئ {وَلاَ تَفْتِنّى} من أفتنه بمعنى فتنة {أَلا في الفتنة} أي في نفسها وعينها وأكمل أفرادها الغنى عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به {سَقَطُواْ} لا في شيء مغاير لها فضلًا عن أن يكون مهربًا ومخلصًا عنها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على هذا الاستئذان والقعود بالإذن المبني عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة، وفي مصحف أبي {سُقِطَ} بالافراد مراعاة للفظ {مِنْ} ولا يخفى ما في تصدير الجملة بأداة التنبيه من التحقيق، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردي أسفل سافلين، وتقديم الجار والمجرور لا يخفى وجهه {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} وعيد لهم على ما فعلوا وهو عطف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه، أي جامعة لهم من كل جانب لا محالة وذلك يوم القيامة، فالمجاز في اسم الفاعل حيث استعمل في الاستقبال بناء على أنه حقيقة في الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنها حيطة بهم الآن بأن يراد من جهنم أسبابها من الكفر والفتنة التي سقطوا فيها ونحو ذلك مجازًا.
وقد يجعل الكلام تمثيلًا بأن تشبه حالهم في إحاطة الأسباب بحالهم عند إحاطة النار، وكون الأعمال التي هم فيها هي النار بعينها لكنها ظهرت بصورة الأعمال في هذه النشأة وتظهر بالصورة النارية في النشأة الأخرى كما قيل نظيره في قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] منزع صوفي، والمراد بالكافرين إما المنافقون المبحوث عنهم، وإيثار وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والاشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين ويدخل هؤلاء دخولًا أوليًا. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} أي: في القعود {وَلا تَفْتِنِّي} أي: لا توقعني في الفتنة.
روي عن مجاهد وابن عباس أنها نزلت في الجدّ بن قيس، أخي بني سلمة، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في جهازه: «هل لك يا جدّ في جلاد بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله! أو تأذن لي ولا تفتنِّي؟ فوالله! لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى، إن رأيت نساء بني الأصفر، ألَّا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أذنت لك!».
قال الشهاب يعني أنه يخشى العشق لهن، أو مواقعتهن من غير حلّ.
وبنات الأصفر: للروم، كبني الأصفر. وقيل في وجه التسمية وجوه: منها أنهم ملكهم بعض الحبشة، فتولد بينهم نساء وأولاد ذهبية الألوان. انتهى.
قال ابن كثير: كان الجدّ بن قيس هذا من أشرف بني سلمة.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا: الجدّ بن قيس؟ على أنا نبخِّله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أدوأ من البخل؟ ولكن سيّدكم الفتى الجعد الأبيض، بشر بن البراء بن معرور».
وقوله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} قال أبو السعود: أي: في عينها ونفسها، وأكمل أفرادها، الغني عن الوصف بالكمال، الحقيق باختصاص اسم الجنس به، سقطوا. لا في شيء مغاير لها، فضلًا عن أن يكون مهربًا ومخلصًا عنها. وذلك بم فعلوا من العزيمة على التخلف، والجرأة على الإستئذان بهذه الطريقة الشنيعة، ومن القعود بالإذن المبني عليه، وعلى الإعتذارات الكاذبة، وقرئ بإفراد الفعل، محافظة على لفظ من.
وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه، مع تقديم الظرف، إيذان بأنهم وقعوا فيها، وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة، زعمًا منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن. وفي التعبير عن الإفتتان بالسقوط في الفتنة، تنزل لها منزلة المهواة المهلكة، المفصحة عن ترديّهم في درجات الردى أسفل سافلين. انتهى.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي: ستحيط بهم يوم القيامة، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}
نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن تبوك ولم يُبدوا عذرًا يمنعهم من الغزو، ولكنّهم صرّحوا بأنّ الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبّة أموالهم وأهليهم، ففضح الله أمرهم بأنّهم منافقون: لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45]، وقيل: قال جماعة منهم: ائذن لنا لأنّا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذَنْ فأذَنْ لنا لئلا نقع في المعصية.
وهذا من أكبر الوقاحة لأنّ الإذن في هذه الحالة كَلا إذنٍ، ولعلّهم قالوا ذلك لعلمهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إنّ الجِدّ بن قيس قال: يا رسول الله لقد علم الناس أنّي مُسْتَهْتَر بالنساء فإنّي إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهنّ فأذَنْ لي في التخلّف ولا تفتنّي وأنا أعينك بمالي، فأذن لهم.
ولعلّ كلَّ ذلك كان.
والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة {ألا في الفتنة سقطوا} للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة.
فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا، ولكنّه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرّف في جنسه، أي في الفتنة العظيمة سقطوا، فأيُّ وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم {ولا تفتنى} كان ما وقَع فيه أشدَّ ممّا تفصَّى منه، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلّف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم، وإنْ أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعونًا مبغوضًا للناس.
وتقدّم بيان {الفتنة} قريبًا.
والسقوط مستعمل مجازًا في الكَون فجأة على وجه الاستعارة: شُبّه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيّؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنّهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها، فهم كالساقط في هُوّة على حيننِ ظَنّ أنّه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب «على الخبير سقطتَ».
وتقديم المجرور على عامله، للاهتمام به لأنّه المقصود من الجملة.
وهذه الجملة تسير مَسرى المثَل.
وجملة {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} معترضة والواو اعتراضية، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر.
والكفر يستحقّ جهنّم.
وإحاطة جهنّم مراد منها عدم إفلاتهم منها، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات.
والمراد بالكافرين: جميع الكافرين فيشمل المتحدّث عنهم لثبوت كفرهم بقوله: {إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45].
ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله: {لمحيطة بالكافرين} إثبات إحاطة جهنّم بهم بطريق شبيه بالاستدلال، لأنّ شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
هؤلاء هم الذين استأذنوا رسول الله في عدم الخروج للجهاد، ومنهم من قال هذه العبارة: لا تفتنني بعدم إعطاء الإذن، ولكن ما موضوع الفتنة؟ هل هو عذاب، أم سوء، أم شرك وكفر- والعياذ بالله-؟ إن كل ذلك- وغيره- تجوز فيه الفتنة. والقول: {ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} ظاهره أنه أمر، ولكنه هنا ليس أمرًا؛ لأن الأمر إذا جاء من الأدنى للأعلى فلا يقال إنه أمر، بل هو دعاة أو رجاء، وإن جاء من المساوى يقال: مساو له، أما إن جاء من الأعلى إلى الأدنى؛ فهذا هو ما يقال له أمر، وكلها طلب للفعل.
وكان الجد بن قيس- وهو من الأنصار- قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ائذن لي ولا تفتني؛ لأن رسول الله إن لم يأذن له فسيقع في فتنة مخالفة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن هذا الأنصاري لم يكن له جَلَدٌ على الحرب وشدائدها. وقيل: إنه كان على وَلَع بحب النساء وسمع عن جمال بنات الروم، وخشي أن يُفتنَ بِهنَّ، خصوصًا أن المعركة ستدور على أرض الروم. ومن المتوقع أن يحصل المقاتلون على سبايا من بنات الروم.
وقوله تعالى: {ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} أوقعه في الفتنة فعلًا؛ لذاك جاء قول الحق: {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ}. وكان هذا الأنصاري سمينًا، وشكا من عدم قدرته على السفر الطويل والحر، فجاء الرد: إن كنتم من الحر والبرد تفرُّون فالنار أحقُّ بالفرار منها؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين}.
وفي آية أخرى قال سبحانه: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} إذن: فجحيم النار أِد قسوة وحرارة من نار القتار، وحر الدنيا مهما اشتد أهون بكثير من نار الآخرة وهي تحيط بالكافرين. اهـ.